عظة يوم الجمعة العظيمة | كتاب [مع المسيح في الامه حتي الصليب] للاب متي المسكين

عظة يوم الجمعة العظيمة | كتاب [مع المسيح في الامه حتي الصليب] للاب متي المسكين


أما يسوع فجلدوه وأسلموه ليُصلب

في هذا اليوم تمت جميع النبوات والرموز، يوم تكدست فيه جميع أنواع المظالم والقسوة، ليتم كل المكتوب عنه.
كانت محاكمة يسوع والسعي في سفك دمه أموراً تجري بغاية السرع لأن حقد رؤساء الكهنة والفريسيين عليه كان شديداً، حتي أن كل لحظة تأخير كانت تزعجهم. وكان كل غرضهم أن يتخلصوا منه حتي يتفرغوا للتمتع بالعيد والاحتفال به.
كان سخطهم عليه شديداً لأنه كشف ما بداخلهم لأنفسهم وللناس، فلم يطيقوا رؤيته أو احتمال بقائه.
كانوا قساة ولكنها قسوة مملوءة بالخوف والرعب منه، فأرادوا أن يتأكدوا من موته بأنفسهم، ولما مات ظلوا مرتعبين أيضاً لئلا يعود فيقوم كما سبق وقال لهم. كم من معاندين ليسوع المسيح اتَّصفوا بالجرأة والقحة في أساليب مهاجمتهم له ولأولاده في كل العصور، ولكن كان في قلوبهم دائماً رعب من سطوته أشد من رُعبة اليهود الذين قتلوه.

"اصْلِبْهُ، اصْلِبْهُ":

كان الشعب ضحية القيادة العمياء، وكان المال أصل البلاء.
هؤلاء الذين استقبلوه بأجمل مِما يُستقبل به الملوك، استطاع رؤساء الكهنة بمالهم وسلطان كهنوتهم أن يجعلوهم يصرخون في وجهه: "اصلبه، اصلبه!"
نسوا إحساناته ومواساته. أين معجزاته؟ أين الذين أقامهم من الموت؟ أين الذين شفاهم من البرص والشلل والعَمَي والصَّمَم؟ اين الذين أعتقهم من قيود الشيطان؟ أين الخمسة الآلاف الذين أطعمهم في الجبل وأشبعهم من تعاليمه؟ أين الذين تلاميذه؟ أين الشجاع بطرس؟ هربوا، هربوا كلهم! ما أحقر المُثُل والمشاعر التي قدَّمتها البشرية نحو مخلَّصها في يوم آلامه!! ولو كنا نحن في أيامهم لعملنا، وربما أرادأ مِمَّا عملوا، لأننا بدونه لا نساوي شيئاً.

"ابِكينَ علي أنفسكُنَّ":

لم يقبل المسيح بكاء النسوة عليه. رفض ان يتقبل مشاعر الأسي والحزن نحوه إذ هو "مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا... أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مُصاباً مضروباً من الله ومذلولاً."
لم يتألم لأنه كان مستحقاً لألم، ولو يُصلب م أجل ذنب عمله حتي يتقبل تعزية الناس له.
أخشي أن نخطئ في هذا اليوم ونحزن أو بكي كبكاء النسوة ظانين أنه تألم من أجل نفسه، إنه جيدٌ أن نبكي علي أنفسنا وعلي أولادنا لئلا تكون كل هذه الآلام التي قاساها عبثاً، إذ نكون بجهالتنا قد ابتعدنا عنه بقلوبنا، نُحرَم من المجد الذي أعدَّه لنا بآلامه!
إن كل ضربة وكل إهانة وكل ألم عاناه المسيح علي الصليب كان من أجل كل فرد من البشرية في ماضيها وحاضرها، ليرفع عن كل واحد منا الحكم الذي كان لابد أن يوفيه.
إنها لم تكن آلام المسيح في الحقيقة، ولكنها آلامي وآلامك المستحقة علينا. نعم، فلنبكِ علي أنفسنا.

"فخرج وهو حامل صليبه":

يوحنا الرسول يوضح لنا أن سمعان القيرواني لم يحمل الصليب كل المسافة، إذ قام المسيح بحمل صليبه في الأول، ولما سقط تحت الصليب رفعوه عنه وأعطوه لسمعان القيرواني، لا رحمة للمسيح، وإنما خوفاً من أن يموت في الطريق فلا يُتمَّمون شهوة حقدهم وغيظهم بصلبه!!
أودُّ لو نتأمل: لماذا سقط المسيح تحت الصليب؟
لقد أمضي نصف الليل في جثسيماني في الصلاة، وكان عرقه يتصبَّب كقطرات دم.
ثم جاء يهوذا مع أعوانه وقبضوا عليه وقُدَّم وحوكم أمام مجلس السنهدريم.
ثم ذهبوا به موثقاً لبيلاطس ليصادق علي الحكم، فاستهزأ به ثم أرسله إلي هيرودس، وبعد فحصه أعاده هيرودس إلي بيلاطس مرة اخري، حيث ضغط رؤساء الكهنة علي بيلاطس بإثارة الشعب وبتهديده بمكر أنه إذا أطلقه يكون عدواً لقيصر! فأسلمه لهم ليُصلب بعد أن هزأ به عساكر الرومان غلاظ القلوب وجلدوه ووضعوا علي رأسه إكليل الشوك، حينئذ خرج وهو حامل الصليب!!
كم مرة خار في الطريق؟ لا ندري. كم مرة أُغمي عليه؟ لا ندري. إنها أُخفيت عنا ولم تُذكر نها أقسي من أن توصف!!

احملوا هذا الشرف:

نعم احملوا الصليب. لا أقصد هذه الصلبان الذهبية المتلألئة علي صدوركم علامة البذخ والترف، وإنما أقصد صليب الموت!! لأن ليس للصليب معني إلا الموت.
يسوع المسيح حمل الصليب لأنه كان مستعداً أن يموت عليه.
فكل مَن يحمل الصليب ولا يكون مستعداً أن يموت عليه فهو كذَّاب منافق، لم يكذب علي الناس وإنما علي الصليب.
مَن يحمل الصليب عليه أن يستعد لموت. ومَن استعد للموت، عليه أن يحتمل آلام الصلب وما قبل الصلب. فقبل أن تحمل الصليب أعدد نفسك للآلام!
طوبي للإنسان الذي لا يخشي الموت، وأسعد منه هو الإنسان الذي مات عن العالم وصَلَبَ أهواءه مع شهواته!
شعر بذلك غريغوريوس الكبير فقال: "وقفت علي قمة العالم حينما شعرت في ذاتي أني لا أشتهي شيئاً ولا أخاف شيئاً"

"يا أبتاه اغفر لهم":

هذا هو تاج الصليب أن نُصلب نحن، ولا نَصلِب أحداً معنا!!
كان لابد أن يقول السيح هذا ويطلب المغفرة لصالبيه حتي لا يكون في صلبه صلبُ لأحد، ولا يكون في موته موتٌ لأحد؛ بل يموت هو ليعطي الحياة لجميع الناس!!
هذا هو الذي قال لنا: "أحبوا أعدائكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلي مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم."
احملوا الصليب، يا أحبائي، ولكن أعود فأقول ليس صليب الذهب ذو السلاسل الجميلة؛ ولكن صليب الموت، الموت عن العالم، الصليب ذو الآلام وذو الصَّفح والغفران.

من كتاب [مع المسيح في الامه حتي الصليب] للاب متي المسكين
تعليقات الفيسبوك
0 تعليقات جوجل